رحلة الآثام بقلم منال سالم
المحتويات
في وضح النهار وتحديدا في الفناء الفسيح الملحق ببيته الجديد وقف كلاهما ينظران بتدقيق إلى مجموعة من العلب الفارغة المتراصة على طاولة قديمة والمتواجدة على مسافة عدة أمتار من موضع وقوفهما تأكد مهاب من ضبط وضعية إمساك وحيده بالسلاح الڼاري وراح يوصيه بتشدد رغم لين نبرته
عايزك تنشن صح إيدك ماتتهزش
استجاب صغيرة بهدوء تام لما يمليه عليه وأصغى إليه بإنصات وهو لا يزال يخبره
أخذ أوس كل الوقت الذي يلزمه للاستعداد جيدا قبل أن يضغط على الزناد لينطلق بعدها العيار الڼاري مصيبا حافة الطاولة بدلا من العلب ظهر الإحباط عليه ومع ذلك خاطبه والده في هدوء كأنما يستحسن أدائه الأولي
مش بطال
مرة فمرة هتتعلم
تركه يعيد المحاولة وكان وشيكا من تحقيق هدفه فامتدح تطور مهاراته وظل يدعمه
برافو عاوزك تبقى بطل
انشغل الاثنان بالتدريب على الرماية لوقت غير محدد إلى أن جاءت تهاني من الخارج لاصطحاب صغيرها حينما تفقدت ما يفعلان انخلع قلبها وحل الذعر بها ومع ذلك لم تحتج إلا حينما طلبت من طفلها الانصراف لتبديل ثيابه آنئذ راحت تلوم مهاب في ضيق منزعج يشوبه كذلك الخۏف لما اعتبرته من وجهة نظرها تهورا
حدجها بنظرة مهينة قبل أن يعاود ملء خزانة سلاحھ الڼاري بالطلقات وهو يخاطبها في لهجة صارمة
ما يخصكيش
لن تنكر أن داخلها اړتعب من رؤيته هكذا وحاولت إشعاره بفداحة ما يقوم به بأسلوب آخر شبه معترض لكنه حذر
المفروض تشجعه يمارس رياضة مفيدة لجسمه وصحته
نظرا لها شزرا قبل أن يصوب فوهته تجاهها هاتفا في نبرة مھددة لا تخلو التجريح
ارتعشت أطرافها وتراجعت عنه متوهمة أنه على وشك إفراغ ما في الخزانة بها لتصطدم بظهرها في صدر زوجها الذي تلقفها بذراعيها مانعا إياها من الانكفاء حينها شعرت تهاني بقليل من الأمان يغمرها واحتمت خلفه بينما وزع ممدوح نظراته المتعجبة بينهما ليتساءل بعدها في نبرة عادية
أشاح مهاب ببصره بعيدا عن كليهما وقال بترفع
جاي في ميعادك مظبوط
ثم راح يطلق في تتابع متزامن الطلقات الڼارية واحدة تلو الأخرى على العلب الفارغة ليصيبها جميعا وهو يكمل بشيء من التحذير الصارم
ويا ريت تعلم مراتك تلزم حدودها بدل ما أعلمها أنا بطريقتي وأظن إنها مش هتعجبها
اشټعل وجهها ڠضبا من تحقيره المتعمد والمشوب أيضا بټهديد سافر فنظرت إلى زوجها بعينين حانقتين فما كان منه إلا أن طلب منها برجاء وهو يسدد لها هذه النظرة المصحوبة بإشارة من يده
بالكاد تماسكت وأطبقت على شفتيها مانعة نفسها من التفوه بأي حماقة احتراما لتواجده ولتشعر كذلك طليقها السابق أن زوجها الحالي يشكل مكانة عزيزة في قلبها ارتفع حاجباها للأعلى في استهجان عندما أمرها ممدوح بصوته الهادئ
اسبقيني على العربية
استنكرت ما يريده وقبل أن تفكر بإبداء اعتراضها منحها نظرة راجية من عينيه لتلتزم الصمت مجبرة حينما شرعت في الابتعاد عنهما أتى من خلفها صوت مهاب وهو يعلمها بلهجة صاحب القرار
أوس هيبات عندي النهاردة
كظمت حنقها بصعوبة وعلقت بنبرة متشنجة دون أن تنظر تجاهه
براحتك
ارتسمت على زاوية فمه ابتسامة صغيرة ما لبث أن تلاشت عندما أخبره ممدوح بخبث بمجرد اختفاء زوجته من محيط المكان
مبروك الشراكة الجديدة أنا عرفت من مصادري الخاصة بس الصراحة مافيش حاجة بتستخبى في البلد دي
مرة ثانية ملأ مهاب خزانة سلاحھ بالطلقات وقال في عدم اكتراث
على كل حال إنت كنت هتعرف الموضوع مش سر
ثم ناول رفيقه السلاح ليستخدمه في الرماية بعدما قام برص علب جديدة وهو لا يزال يكلمه في هدوء
هننتهي من الإجراءات الرسمية وهعلن عن ميعاد الافتتاح الرسمي للمستشفى
فرد ممدوح ذراعه وحاول التصويب متسائلا ببسمته الماكرة
زي الفل وأنا معاك فيها طبعا
أجابه بإيماءة موافقة من رأسه فاستمر ممدوح يقول بنوع من الإلحاح
مسكني منصب كويس عيب يبقى صاحبي صاحب أكبر المستشفيات هنا وأنا أبقى حتت موظف صغير
أشار
له ليبدأ بالتصويب وهو يخبره
ماتقلقش
فشل ممدوح في الإطاحة بأي واحدة من العلب فالتصقت بسمة ساخرة بثغر رفيقه الذي استعاد منه سلاحھ ليصوب الفوهة تجاه أول علبة أسقطها بطلقة واحدة وفعل المثل مع البقية ليشعر الأول بالحنق من انتصاره عليه تحولت أنظارهما تجاه الخادمة الأجنبية عندما جاءت لتقول في لهجتها الرسمية الجادة
سيدي لقد جاءت ضيفتك هل أحضرها هنا
في التو أجابها بصوته الصارم
لا اجعليها تنتظر في غرفة مكتبي
اعترى الفضول نفس ممدوح وتساءل بتطفل وقح
مين دي يا بوب صيدة جديدة
تجاهل الرد عليه وخاطبه في تهكم بعدما رمقه بهذه النظرة الحادة
روح لمراتك لأحسن تقلق إنك اتأخرت عليها!
استفزته طريقته وهمهم باسما فقط حفظا لماء وجهه المراق
هي الحكاية بقت كده ماشي يا صاحبي
لوح مهاب بعدها بيده كأنما يودعه فغادر في عجالة محدثا نفسه بعزم
بيتهيألي جه الوقت اللي أخلص فيه من تهاني
بحماس متقد وعلى وجه السرعة استقل وسائل المواصلات العامة المختلفة ليصل إلى بلدة والدته من أجل زيارتها ونقل النبأ السار إليها وضع عوض مسألة القطيعة والخلافات جانبا وأصر هذه المرة على عدم تقبل رفضها للقائه فإذ ربما يرق قلبها وتلين مشاعرها المتحجرة حينما تعلم بأمر الحفيد المنتظر انتظر كعادته عند بابها المغلق طرقه عدة مرات وهو يناديها راجيا من الخارج
يامه! عاوزك في حاجة مهمة ومش همشي قبل ما تعرفيها
أتى ردها متحفزا ضده مثل العادة
قولتلك غور من هنا وانسى إن ليك أم
أصر عليها بتصميم معاند لرغبتها
والله المرادي أنا جاي في حاجة مهمة هتفرحك اسمعيني بس الأول
هتفت عاليا في سخط
وأنا من إمتى بفرح واللي بتعمله مزعلني وقاهر قلبي
لم يجد بدا من إخبارها هكذا من موضع وقوفه رغم تمنيه لرؤية تعابير وجهها وهو يلقي بالخبر على مسامعها
يامه ربنا هيعوضنا خير وهيرزقنا بعيل
حينها فقط سمع وقع خطوات قدمي والدته وهما تتحركان لتدنو من الباب أتاه أيضاصوتها المتسائل في ذهول قبل أن تفتحه
بتقول إيه
انتشى داخله لتخليها عن عنادها المحطم لنفسيته وتحمس للغاية للالتقاء بها فتحت الباب فانتفض قلبه ورفرف بين ضلوعه تأمل وجهها العابس بنظرات فرحة وفي غاية السعادة فما أجمل الظفر بلمحة من الأحب والأغلى إلى الفؤاد سألته أمه في تحفز غريب
إنت بتتكلم جد
انحنى على يدها بعدما أمسك بها يقبلها وقال مبتسما بشدة
أيوه يامه ربنا كرمه واسع وفردوس حامل
أشارت له بيده الأخرى ليتبعها وهي تأمره
تعالى جوا
سار خلفها مسرورا ليستطرد في نشوة عارمة
كنت عارف إن قلبك هيحن لما تعرفي عمر إحساسي ما خيب أبدا
جلس على المصطبة الخشبية مجاورا لها شملها بنظرات متشوقة لمثل هذا القرب الدافئ وسألها في حماس ممزوج بالبهجة
فرحانة يامه
لم تعطه أي رد ومع ذلك ارتضى بالقليل الذي منحته له تابع الحديث في استرسال
إن شاءالله اللي جاي هيكون في غلاوة بدري ويعوضنا عن فراقه
ظلت تنظر إليه في صمت فاستمر يضيف بقدر من الرجاء الشديد
أنا مش عاوزك تفضلي زعلانة مني يامه ومقطعاني إنتي بركة حياتي
طالعته بنظرة غامضة لتقول بعدها في هدوء مريب
ماشي يا عوض
لم يشك للحظة واحدة في نواياها السيئة تجاه زوجته بل على العكس كان في قمة الرضا معتقدا بتبدد ما كان قائما بينهما من خلافات وخصام
منذ أن عاد من الخارج وهو في حالة غير الحالة التي كان عليها صباح اليوم ظل ممدوح واجما متصلبا يتصيد الأخطاء لها وكأنه يمهد السبيل للتخلي عنها أحست تهاني بنفسها تهوي من أعالي السماء لتنسحق وهي تلامس الأرض القاسېة عندما عنفها بتأنيب على ما حدث
إنتي قاصدة تقللي مني قصاده
نظرت إليه بذهول مرتاع لا تعرف ما الذي أصابه لتتبدل أحواله لهذا الشكل المخيف انقبض صدرها بقوة وهو يسألها في نبرة مليئة بالاتهام
لسه بتفكري فيه بعد كل اللي حصل!!!
ظلت عيناها مندهشة لا تقوى على الرمش وهو يخاطبها بحدة
ما أنا الاستبن اللي مركون على الرف
نفت اتهاماته المزعومة بتأكيدها المذعور
أبدا والله بس إنت بنفسك شايف بيعلم أوس إيه!
استخف بما قالت ولوى ثغره معلقا في نفور
كل حاجة أوس هي دي الحجة المناسبة عشان تفضلي جمبه وأنا زي المغفل مصدقك
هتفت من فورها نافية شكوكه المرعبة لها
اقسم بالله أنا مابطقوش إزاي تظن كده
أحست بعاصفة من الخۏف تجتاحها وهو يخبرها بلهجة غريبة لم ترحها مطلقا
تهاني الوضع ده مابقاش عاجبني أنا مش حاسس إني مستقل بحياتي دايما مهاب محشور فيها
هربت الډماء من وجهها وراحت أطرافها ترتجف بقوة عندما أضاف عن عمد قاصدا إفساد علاقتهما
وطبعا عشان خاطر ابنك إنتي مضطرية تقدمي تنازلات ومش مهم جوزك
لحظتها أحست تهاني أن حياتها على وشك الاڼهيار وأنها باتت قاب قوسين أو أدنى من التخريب لهذا هتفت بوجل وهي تتعلق بذراعيه
لأ متقولش كده يا ممدوح! أنا استحالة أتصرف بالشكل ده معاك إنت حبيبي أنا عرفت طعم الحب واتعلمته على إيديك
أبعد قبضتيها عنه ليقول بجمود أرعبها تماما
بيتهيألي احنا محتاجين نبعد فترة عن بعض لحد ما نشوف هنقرر إيه
لحظتها شعرت وكأن قلبها ينسحق بين الرحايا فصړخت في توسل
لأ يا ممدوح ماتعملش فيا كده
تركها ومضى وهو يعلم تمام العلم أن قربه منها صار عصيا عليها وما هي إلا بضعة صدامات أخرى قاسمة ليقضي على ارتباطهما كليا ومن جذوره!
أشرق وجهه وسر داخله وهو يحمل في يده بعناية واضحة ملفوف طيب المذاق أعدته والدته خصيصا لأجل زوجته في وعاء مستقل كنوع من المبادرة للتصالح بينهما لم ينس طوال الطريق توصياتها بتناوله كاملا وإلا لڠضبت منه لعصيانه أمرها خاصة أنها هديتها الغالية إليها وبذلت فيها الطاقة والجهد لإسعادها لهذا وعدها بتحقيق مطلبها دون أن يشك أبدا في نواياها عاد إلى البيت فاستقبلته زوجته باهتمام يخالطه الفضول فقد رغبت في معرفة تبعات هذه الزيارة وكانت المفاجأة بترحيب أمه لعودة العلاقات الودية
ونسيان أحزان الماضي وما زاد من اندهاشها هو تجهيزها بنفسها لهذا الطعام المرهق في تحضيره اشتمت رائحته الشهية وعلقت مبتسمة
مكانش ليه لازمة تتعب نفسها!
أكد لها بحسن نية
أمي لما بتحب حد بتعمله محشي ومحلفاني تاكلي منه أول واحدة بس أنا مقدرش مادوقش معاكي
هزت رأسها موافقة وقالت
خلاص هرص الأطباق وناكله سوا
رد عليها وهو يشير بيده نحو الحمام
عقبال ما أكون غسلت إيدي
متابعة القراءة