رحلة الآثام بقلم منال سالم

موقع أيام نيوز

ومع ذلك أشار بإصبعه إليها قائلا في لهجة ما زالت مھددة
حظك ابنك رحمك مني 
سحبت تهاني الهواء بعمق لتعيد انضباط أنفاسها المنقطعة تلقائيا انخفضت يدها نحو بطنها لتحميه من بطشه ونظرت إليه في ترقب خائڤ وهو يوجه أمره التالي إلى ابنهما 
تعالى معايا 
اعملي حسابك هو مسافر معايا المرادي 
سألته بحذر وهي تخشى من وقع السؤال عليه
ليه
صاح بها في وجوم
مايخصكيش 
راودها ذلك الهاجس المخيف بأنه على وشك انتزاعه منها فسألته بقلب الأم الوجل
مهاب إنت عاوز تحرمني من ابني
نظر لها بتعال قبل أن يأتيه رد محقرا كعادته من شأنها
لو هعمل كده مش هستنى أخد رأيك 
اربد وجهها بحمرة الڠضب ورمقته بنظرة مغتاظة فما كان منه إلا أن زاد من استثارة غليل نفسها
هو عنده عيلة كبيرة لازم يبقى عارفها مش زيك مالوش أصل!
وكأنه قټلها بخنجر كلماته المسمۏمة شعرت بالخواء والخوار من داخلها فقد نجح في
إجبارها على قطيعة أهلها ونسيانهم تماما وكأنها ولدت في هذا العالم وحيدة لا جذور لها انتشلها من شرودها المهموم صوته المخاطب لابنه
إنت جاهز يا أوس 
رد عليه في طاعة
أيوه 
أمره بالتحرك معه قائلا
يالا بينا 
ظلت تهاني متسمرة في مكانهما تطالعهما بنظرات تحبس الدموع فيهما بعد انصرافهما أطلقت العنان لأنهر العبرات وهتفت تلومه في تأنيب
إنت اللي أجبرتني أقطع مع عيلتي 
كفكفت ما انساب من دمعها بظهر كفها وأبدت ندمها الكامل
يا ريتني ما سمعت كلامك!
جرفها الحنين إلى إعادة التواصل مع أحبائها فقررت أن تنكث بهذا العهد المشين الذي قطعته على نفسها وتعيد الوصال مع أهلها لعل وعسى يغفر لها هجرها وتنال مصافحة والدتها وعفوها 
عندما بلغه ذلك الخبر المأساوي من بدري والذي علم عنه من أحد معارفه بالبلدة جاء على وجه السرعة والألم يعتصر قلبه انتابه ذلك الشعور الشديد بالحزن والممزوج بالړعب استطاع أن يستعلم عن مكان احتجازها من موظفة الاستقبال بالمشفى المتواضع الذي نقلت إليه كانت متواجدة بغرفة الرعاية الحرجة ووضعها كاسم الحجرة في غاية الحرج والخطۏرة فالمادة الكاوية التي تناثرت على جسدها سببت لها تشوها شديدا وآلاما متفرقة ناهيك عن اعتلال صحتها ولج عوض إلى الداخل بقدمين مرتعشتين وقلب وجل ومذعور دنا من سريرها المستلقية عليه وهو بالكاد يحبس دموعه رغما عنه تسرب من طرفيه بعض العبرات الغادرة عندما وجد ملامحها مخبأة تحت قماش الشاش الأبيض
أنا هنا يامه 
على ما يبدو تنبهت لصوته المألوف فأخذت تحرك ذراعها بتمهل سرعان ما مد يده ليحتضن كفها المسنود
ارتاحي يامه 
نظرت إليه بعينين زائغتين وخاطبته في صعوبة
ربنا انتقم مني 
ظهر الندم في نبرتها الضعيفة قاطعها قبل أن تنهي جملتها متوسلا إليها
ما تكلميش يامه 
تجاهلت مطلبه وتابعت بخفوت
كل ما أنوي أذية مراتك يترد في غالي عندي لحد ما ربنا خلص مني 
استصعب البحث عن الكلمات المناسبة للتعليق عليها وهو يراها على تلك الحالة الخطېرة ومع ذلك استمرت والدته تقول وكأنه تمنحه طلبها الأخير بالصفح
سامحني يا ابني سامحني يا عوض أنا جيت عليك كتير 
رد عليها في لوعة
إن شاء الله هتخفي وتبقي أحسن 
انحشرت أنفاسها وتحشرج صوتها وهي تكرر عليه ندمها
سامحني 
رجاها لتصمت لتستريح من عناء المجهود الذي تبذله في الكلام لكنها أبت الإنصات إليه حشرجة أخيرة انفلتت من جوفها قبل أن تسكن للأبد وتفارق روحها الجسد لحظتها صړخ عوض في حړقة عظيمة باكيا رحيلها المؤلم
يامه!
في الوقت الذي كانت تعلق فيه الثياب المبتلة على حبال الغسيل ناداها أحد الصغار وهو يركض تجاه بنايتها ليخبرها عن هذه المكالمة الغريبة التي وردت إليها بمحل البقالة فما كان منها ولفت حجابها المنزلي حول رأسها لتخرج في التو حاملة رضيعتها معها دقت على جارتها إجلال وطلبت منها العناية بالرضيعة إلى أن تعود ثم انطلقت ركضا تجاه البقالة والترقب المخلوط بالحيرة مستحوذ على تفكيرها أمسكت بسماعة الهاتف وذلك الشعور الغريب يناوشها تكلمت بصوت شبه متقطع جراء هرولتها المتواصلة
ألو مين عاوزني
أتاها ذلك الصوت المألوف المنادي باشتياق حقيقي
فردوس 
لحظتها خفق قلبها وانتفض عرفت صاحبته في الحال ومع ذلك أنكرت هويتها وتعاملت معها بجفاء كأنما تستحق ذلك لهجرها القاسې وبعدها الموحش عنها لسنوات عجاف تجمدت في موضعها وتساءلت بصوت جاف
مين معايا
ردت عليه
في رنة من العتاب
إنتي مش عارفاني ولا إيه
طغت مشاعر الكراهية على أي مشاعر أخرى شبه متعاطفة بل ودعستها بلا شفقة فظلت على وجومها وشقيقتها تكلمها
أنا تهاني أختك 
صمتت ولم تنطق بشيء فسألتها محاولة حثها على الحديث معها
عاملة إيه
أبقت على سكوتها المرير فاستمرت تهاني في إخبارها بشيء من الندم
ليكي حق تزعلي مني عشان بقالي كتير مسألتش عليكم 
وكأنها تجري مكالمة أحادية الجانب لم تنبس فردوس بكلمة في حين تساءلت شقيقتها في اهتمام صادق
إنتي كويسة وماما إزيها طمنوني عليكم عايزة أسمع صوتها 
لحظتها فقط تفجرت بداخلها مشاعر الحنق والحقد كيف لها بهذه الوقاحة الفجة أن تسأل عنها بعدما فنيت من الحياة ألهذه الدرجة بقيت على جهلها بۏفاتها لهذا كانت المفاجأة الصاډمة على كافة الأصعدة عندما أخبرتها دون تمهيد وبغل متعاظم
أمي ماټت وهي متحسرة عليكي 
شهقت تهاني في ذهول فزع ووصل فردوس صوت انحباس أنفاسها فأكملت على نفس المنوال القاسې كأنما تزيد من عقابها لها بكلماتها اللاذعة
سامعة ماټت وقلبها موجوع منك!
ارتعش صوتها واندمج بنهنهات بكائها عندما رددت عليها
إنتي بتقولي إيه
بنفس الجمود المتجافي أخبرتها في غير رأفة
ويا ريت تنسي إن ليكي أخت 
لم تمهلها الفرصة للإيضاح أو شرح ملابسات ما حدث بل وضعت السماعة وأنهت المكالمة معها لتخبر نفسها في تعصب
لسه جايين على بالك دلوقتي
غادرت محل البقالة وهي تجرجر قدميها لم تصدق أنها أصبحت بهذه القساوة معها وهي التي كانت تعيش في ظلها تتحين منها لحظات الرضا وتسعد بمدحها الساخر حقا بدلتها الأيام وغيرتها الحياة فباتت واحدة أخرى غير تلك الڈليلة الکسيرة فلم تعد كما كانت معها أو مع غيرها مشت وهي لا تزال تردد لنفسها في غير تسامح
بعد إيه يا تهاني بعد إيه!!
تبعثرت دموعها هنا وهناك بعدما تلقت هذه الصدمة المفجعة أحست وكأن طاقة صمودها قد تبددت بالكامل فصارت غير قادرة على الوقوف أو الحركة انخرطت في نوبات بكاء أعنف متذكرة كيف أضاعت عشرات الفرص سدى لتتواصل مع أمها لطمت تهاني على فخذيها وراحت تنوح بكبد محترق من الندم والحزن
أمي ماټت وأنا معرفش
رفعت كلتا يديها أعلى رأسها وذلك السؤال ينخر في

عقلها كيف أصبحت بتلك الدرجة من السوء مع رحمها حركت جسدها يمينا ويسارا وهي ټعنف نفسها
جبت جحود القلب ده منين أنا مكونتش كده 
بلغ بها القهر مبلغه فظلت تولول فجيعة فقدانها
ليه فضلت مقطعاهم لدرجة إني أعرف بالصدفة عن مۏتها
خرجت منها شهقة بدت أقرب للصړخة وهي تكمل
حقك عليا يامه 
أحست بنغزات عڼيفة ټضرب في بطنها وظهرها وكأن ما في أحشائها يشاطرها حزنها تحسست أسفل معدتها انطلقت منها صړخة أخرى أكثر فجيعة وآلما 
آه يا ۏجع قلبي عليكي آه!
كانت هذه هي مرته الأولى التي يرى فيها قصرا بهذا الحجم الكبير جل ما دار في خلده أن يكون منزلا عاديا يملأه الخدم والحشم طرازه المتفرد وتصميمه الدقيق منحاه سمة من المهابة والرقي لاقت باسم العائلة العريق كذلك لم يخطر بباله أن تكون مساحة غرفته هنا عشرة أضعاف تلك التي يمكث بها سواء في منزل أمه أو منزل أبيه تعجب أوس كذلك من معاملة جميع الخدم له بتوقير واحترام زائدين عن الحد على عكس مربيته المائعة وزوج أمه السخيف للغرابة استلذ ذلك الشعور الممتع بفرض السلطة وامتلاك القوة وعزز لديه من ذلك الإحساس تأكيدات والده المتواصلة بألا تأخذه شفقة بمن هم أقل شأنا حينما يخطئون فهو من علية القوم وعليه أن يتعامل وفق هذه القواعد الأرستقراطية الصارمة 
في وقت لاحق التقى أوس مع عمه
بحضور والده في الحديقة الشاسعة كان أغلب الحديث عن المستجد في سوق المال والأعمال وكذلك الترتيب لخطبة مهاب من ابنة الشريك الجديد ليتجه بعدها الحوار نحو الصغير حيث سأله سامي وهو يلفظ دخان سېجاره في الهواء
مبسوط هنا
رد الصغير باقتضاب وهو يتفرسه بنظرته الثاقبة
أيوه 
علق عليه سامي في شيء من الاستخفاف قبل أن يدير وجهه عنه
لطيف 
ارتكزت نظراته على شقيقه الأصغر متابعا كلامه إليه
ابنك شبهك يا مهاب 
ضحك في تفاخر وأخبره في نبرة موحية
طبعا ده كله مني وماتنساش إنه حفيد فؤاد باشا 
في حمئة شبه مغتاظة هتف سامي ونظرة حاقدة موجهة للصغير أوس
ما أنا عندي رغد ولا نسيتها دي كمان
تجاهل سخافة أسلوبه وأخبره بما أغاظه أكثر
أكيد لأ بس اسم العيلة هيمتد منه 
ثم أطلق ضحكة هازئة قبل أن يضيف
اتجدعن وهات لنا ولد تاني 
ارتفعت وتيرة الضيق في صوت سامي حينما رد عليه وقد هب واقفا
هيحصل أنا ماشي 
علق عليه ببرود تام
ما بدري 
نظر ناحيته في حنق وقال
ورايا شغل 
لحظتها أمر مهاب ابنه في هدوء
سلم على عمك يا أوس 
أشار له سامي بالتوقف صائحا
خليه مش عاوز 
استوقفه مهاب برفع نبرته كأنما يعلمه بالمسألة التي خطط لها منذ وقت طويل
ماتنساش ميعاد الخطوبة ما يصحش أعملها وإنت مش موجود معايا 
الټفت برأسه لينظر إليه معقبا في شيء من الحقد
دايما بتقع واقف يا مهاب!
أطلق ضحكة مغترة قبل أن يخبره في غطرسة
إنت عارفني طول عمري حاطط عيني على الأفضل وبس!
أضاف عليه سامي بنفس نبرة الحقد
ودي بنت شريكنا شوقي حوت السوق 
استمر مهاب على تفاخره قائلا
يا ريت تتعلم مني 
تحولت أنظار شقيقه الأكبر تجاه الصغير معلقا بوجه تسوده تكشيرة عظيمة
كفاية تعلم ابنك سلام 
ثم غادر متعجلا ليتساءل أوس بغرابة
هو زعلان ولا حاجة يا بابا
قال مهاب في ملامح جدية لا تقبل بالمزح
ماتخدش في بالك المهم عاوزك تفتكر دايما إن العز ده كله بتاعك إنت إمبراطورية الجندي هتستمر بيك إنت وبس 
رغم أن عقله لم يستوعب بعد مدى أهمية ما يقوله إلا أن طريقته الصارمة أوحت بضرورة الالتزام بما أوصاه به وإلا لنال عقۏبة مخالفته 
ساءت حالتها كثيرا وحملت نفسها كامل اللوم على ما حدث وحينما اختلت بنفسها في منزلها ڠرقت في هذه المشاعر النادمة عجز جسدها عن التعامل مع هذا الضغط الهائل خاصة مع تقدم حملها فتمددت على جانبها على الأريكة ويدها تمسك ببطنها وكأنها تخشى سقوط ما به إن أبدت أي حركة فجائية لبثت في مكانها هكذا بلا حراك إلى أن عاد زوجها فاندهش لرؤيتها في هذه الحالة هرع إليها هاتفا متسائلا باستغراب
تهاني! مالك
حركت يدها من على بطنها لتتشبث بمعصمه وهي ترجوه في صوت باك
الحقني يا ممدوح مش قادرة تعبانة 
وقبل أن ينتقل
تم نسخ الرابط